كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروي عن عليّ بن أبي طالب وابن عمر وأبي أُمامة وعطاء بن أبي رَبَاح والحسن البصري والنَّخَعِيّ ومكحول والزهريّ أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللًا: إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه؛ فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء المستعمل.
روى عبد السلام بن صالح حدّثنا إسحاق بن سُويد عن العلاء بن زياد عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مرضى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ذات يوم وقد اغتسل وقد بقيت لمعة من جسده ولم يصبها الماء، فقلنا: يا رسول الله، هذه لمعة لم يصبها الماء؛ فكان له شعر وارد، فقال بشعره هكذا على المكان فبَلَّه.
أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، وقال: عبد السلام بن صالح هذا بصريّ وليس بقويّ، وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق عن العلاء مرسلًا، وهو الصواب.
قلت: الراوي الثقة عن إسحاق بن سُويد العدوي عن العلاء بن زياد العدوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل؛ الحديث فيما ذكره هشيم.
قال ابن العربي: مسألة الماء المستعمل إنما تنبني على أصل آخر، وهو أن الآلة إذا أدّى بها فرض هل يؤدي بها فرض آخر أم لا؛ فمنع ذلك المخالف قياسًا على الرقبة إذا أدّى بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر؛ وهذا باطل من القول، فإن العتق إذا أتى على الرق أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتق آخر. ونظيره من الماء ما تلف على الأعضاء فإنه لا يصح أن يؤدّي به فرض آخر لتلف عينه حِسًّا كما تلف الرق في الرقبة بالعتق حكمًا، وهذا نفيس فتأملوه.
العاشرة: لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليها الماء، راكدًا كان الماء أو غير راكد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغيّر طعمه أو لونه أو ريحه» وفرقت الشافعية فقالوا: إذا وردت النجاسة على الماء تنجس؛ واختاره ابن العربي.
وقال: من أصول الشريعة في أحكام المياه أن ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» فمنع من ورود اليد على الماء وأمر بإيراد الماء عليها، وهذا أصل بديع في الباب، ولولا وروده على النجاسة قليلًا كان أو كثيرًا لما طهرت.
وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في بول الأعرابي في المسجد: «صبّوا عليه ذَنُوبًا من ماء» قال شيخنا أبو العباس: واستدلّوا أيضًا بحديث القلتين، فقالوا: إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجس وإن لم تغيّره، وإن ورد ذلك القدر فأقَبل على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته وأزال النجاسة وهذه مناقضة، إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين، وتفريقهم بورود الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوريّ ليس فيه من الفقه شيء، فليس الباب باب التعبدات بل من باب عقلية المعاني، فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها.
ثم هذا كله منهم يرده قوله عليه الصلاة والسلام: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه».
قلت: هذا الحديث أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عن رِشدِين بن سعد أبي الحجاج عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي وعن ثوبان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر اللون.
وقال: لم يرفعه غير رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوي، وأحسن منه في الاستدلال ما رواه أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خدِيج عن أبي سعيد الخدري قال قيل: يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بُضاعة، وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» أخرجه أبو داود والترمذي والدَّارَقُطْنِيّ كلهم بهذا الإسناد.
وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقد جوّد أبو أسامة هذا الحديث ولم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بُضاعة أحسن مما روى أبو أسامة.
فهذا الحديث نص في ورود النجاسة على الماء، وقد حكم صلى الله عليه وسلم بطهارته وطهوره.
قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيِّم بئر بضاعة عن عمقها؛ قلت: أكثر ما يكون الماء فيها؟ قال: إلى العانة.
قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة.
قال أبو داود: وقدّرت بئر بُضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غيّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال لا.
ورأيت فيها ماء متغير اللون.
فكان هذا دليلًا لنا على ما ذكرناه، غير أن ابن العربي قال: إنها في وسط السَّبَخة، فماؤها يكون متغيّرًا من قرارها؛ والله أعلم.
الحادية عشرة: الماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات هو الماء القراح الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماء مطلقًا غير مضاف إلى شيء خالطه كما خلقه الله عز وجل صافيًا ولا يضره لون أرضه على ما بيناه.
وخالف في هذه الجملة أبو حنيفة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر فأما أبو حنيفة فأجاز الوضوء بالنبيذ في السفر، وجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر.
فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به.
إلا أن أصحابه يقولون: إذا زالت النجاسة به جاز.
وكذلك عنده النار والشمس؛ حتى أن جلد الميتة إذا جفّ في الشمس طهر من غير دباغ.
وكذلك النجاسة على الأرض إذا جفت بالشمس فإنه يطهر ذلك الموضع، بحيث تجوز الصلاة عليه، ولكن لا يجوز التيمم بذلك التراب.
قال ابن العربي: لما وصف الله سبحانه الماء بأنه طهور وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دلّ على اختصاصه بذلك؛ وكذلك قال عليه الصلاة والسلام لأسماء بنت الصدّيق حين سألته عن دم الحيض يصيب الثوب: «حُتِّيه ثم اقرِضيه ثم اغسليه بالماء» فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لما في ذلك من إبطال الامتنان، وليست النجاسة معنى محسوسًا حتى يقال كل ما أزالها فقد قام به الغرض، وإنما النجاسة حكم شرعي عين له صاحب الشرع الماء فلا يلحق به غيره إذ ليس في معناه، ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل في إسقاطه سقط في نفسه.
وقد كان تاج السنة ذو العز ابا المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنى.
قلت: وأما ما استُدِلّ به على استعمال النبيذ فأحاديث واهية، ضعاف لا يقوم شيء منها على ساق؛ ذكرها الدَّارَقُطْنِيّ وضعفها ونصّ عليها.
وكذلك ضعف ما روي عن ابن عباس موقوفًا: النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء. في طريقه ابن محرز متروك الحديث. وكذلك ما روي عن علي أنه قال: لا بأس بالوضوء بالنبيذ. الحجاج وأبو ليلى ضعيفان. وضعف حديث ابن مسعود وقال: تفرّد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. وذكر عن علقمة بن قيس قال قلت لعبد الله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ فقال: لا. قلت: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته.
وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود قال: سألني النبي صلى الله عليه وسلم: «ما في إدواتك» فقلت: نبيذ. فقال: «تمرة طيبة وماء طهور قال: فتوضأ منه».
قال أبو عيسى: وإنما روي هذا الحديث عن أبي زيد عن عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا نعرف له رواية غير هذا الحديث، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ؛ منهم سفيان وغيره، وقال بعض أهل العلم: لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال إسحاق: إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيَمَّم أحب إلي.
قال أبو عيسى: وقول من يقول لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب والسنة وأشبه؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].
وهذه المسألة مطولة في كتب الخلاف؛ وعمدتهم التمسك بلفظ الماء حسبما تقدم في المائدة بيانه والله أعلم.
الثانية عشرة: لما قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُورًا} وقال: {لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] توقف جماعة في ماء البحر؛ لأنه ليس بمنزل من السماء؛ حتى رووا عن عبد الله ابن عمر وابن عمرو معًا أنه لا يتوضأ به؛ لأنه نار ولأنه طبق جهنم.
ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم بيّن حكمه حين قال لمن سأله: «هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته» أخرجه مالك. وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر وابن عباس، لم يروا بأسًا بماء البحر، وقد كره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء بماء البحر؛ منهم ابن عمر وعبد الله بن عمرو، وقال عبد الله بن عمرو: هو نار.
قال أبو عمر؛ وقد سئل أبو عيسى الترمذي عن حديث مالك هذا عن صفوان بن سُلَيم فقال: هو عندي حديث صحيح.
قال أبو عيسى فقلت للبخاري: هشيم يقول فيه ابن أبي بَرْزة.
فقال: وَهِم فيه، إنما هو المغيرة بن أبي بُرْدة.
قال أبو عمر: لا أدري ما هذا من البخاري رحمه لله، ولو كان صحيحًا لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده، ولم يفعل لأنه لا يعول في الصحيح إلا على الإسناد.
وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء، وإنما الخلاف بينهم في بعض معانيه.
وقد أجمع جمهور من العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالأمصار من الفقهاء: أن البحر طهور ماؤه، وأن الوضوء به جائز؛ إلا ما روي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما كرها الوضوء بماء البحر، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك ولا عرج عليه، ولا التفت إليه لحديث هذا الباب.
وهذا يدلّك على اشتهار الحديث عندهم، وعملهم به وقبولهم له، وهو أولى عندهم من الإسناد الظاهر الصحة لمعنى ترده الأصول. وبالله التوفيق.
قال أبو عمر: وصفوان بن سُلَيم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، من عُبّاد أهل المدينة وأتقاهم لله، ناسكًا، كثير الصدقة بما وجد من قليل وكثير، كثير العمل، خائفًا لله، يكنى أبا عبد الله، سكن المدينة لم ينتقل عنها، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يسأل عن صفوان بن سُلَيم فقال: ثقة من خيار عباد الله وفضلاء المسلمين.
وأما سعيد بن سلمة فلم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان والله أعلم ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عند جميعهم.
وأما المغيرة بن أبي بُرْدة فقيل عنه إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة.
وقيل: ليس بمجهول.
قال أبو عمر: المغيرة بن أبي بردة وجدت ذكره في مغازي موسى بن نصير بالمغرب، وكان موسى يستعمله على الخيل، وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ من غير طريق مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله» قال إسناد حسن.
الثالثة عشرة: قال ابن العربي: توهّم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضلة لا يتوضأ به، وهو مذهب باطل، فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت: أجنبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلت من جَفْنة وفضلت فضلة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل منه فقلت: إني قد اغتسلت منه.